فصل: باب حد الشرب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***


كتاب الحدود

وهو جمع حد، وهو في اللغة‏:‏ المنع، ومنه الحداد للبوّاب لمنعه الناس من الدخول، وحدود العقار‏:‏ موانع من وقوع الاشتراك، وأحدت المعتدة‏:‏ إذا منعت نفسها من الملاذّ والتنعم على ما عرف، واللفظ الجامع المانع حد، لأنه يجمع معاني الشيء ويمنع دخول غيره فيه‏.‏ وحدود الشرع‏:‏ موانع وزواجر عن ارتكاب أسبابها‏.‏ ‏(‏و‏)‏ في الشرع ‏(‏هي عقوبة مقدرة وجبت حقا لله تعالى‏)‏ وفيها معنى اللغة على ما بينا، والقصاص لا يسمى حدا لأنه حق العباد، وكذا التعزير لأنه ليس بمقدر ثبتت شرعيته بالكتاب والسنة‏.‏ أما الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزانية والزاني‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسارق والسارقة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 38‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏ الآية، وآية المحاربة وغير ذلك‏.‏ والسنة حديث ماعز والغامدية والعسيف وغيرها من الأحاديث المشهورة على ما يأتي في أثناء الأبواب إن شاء الله تعالى‏.‏ والمعقول، وهو أن الطباع البشرية والشهوة النفسانية مائلة إلى قضاء الشهوة واقتناص الملاذ وتحصيل مقصودها ومحبوبها من الشرب والزنا والتشفي بالقتل وأخذ مال الغير والاستطالة على الغير بالشتم والضرب خصوصا من القوي على الضعيف، ومن العالي على الدنيء، فاقتضت الحكمة شرع هذه الحدود حسما لهذا الفساد، وزجرا عن ارتكابه ليبقى العالم على نظم الاستقامة، فإن إخلاء العالم عن إقامة الزاجر يؤدي إلى انخرامه، وفيه من الفساد ما لا يخفى، وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في القصاص حياة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 179‏]‏‏.‏ ومن كلام حكماء العرب‏:‏ القتل أنفى للقتل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والزنا‏:‏ وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهته‏)‏ أما الأول فلعموم موارد استعمال اسم الزنا؛ فإنه متى قيل فلان زنى، يعلم أنه وطئ امرأة في قبلها وطئا حراما؛ ألا يرى أن ماعزا لما فسر الزنا بالوطء في القبل حراما كالميل في المكحلة حده النبي صلى الله عليه وسلم؛ وأما كونه في غير الملك فلأن الملك سبب الإباحة فلا يكون زنا؛ وأما عدم الشبهة فلقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ادرؤوا الحدود بالشبهات‏)‏ ولا بد فيه من مجاوزة الختان، لأن المخالطة بذلك تتحقق وما دون ذلك ملامسة لا يتعلق بها أحكام الوطء عن غسل وكفارة وصوم وفساد حج‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويثبت بالبينة والإقرار‏)‏ لأنهما حجج الشرع، وبهما تثبت الأحكام على ما مر في الدعاوى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ‏(‏‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏ دليل على أن الزنا الذي رموهم به يثبت إذا أتوا بأربعة شهداء حتى يسقط عنهم حد القذف وهي البينة‏.‏ وأما الإقرار فالصدق فيه راجح لأنه إقرار على نفسه وفيه مضرة على نفسه، وبه رجم عليه الصلاة والسلام ماعزا، والعلم القطعي متعذر في حقنا فيكتفي بالظاهر الراجح ‏(‏والبينة‏:‏ أن يشهد أربعة على رجل وامرأة بالزنا‏)‏ لما تلونا، ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 15‏]‏ شرط الأربعة للحديث الذي تقدم في اللعان ‏(‏فإذا شهدوا يسألهم القاضي عن ماهيته وكيفيته ومكانه وزمانه والمزني بها‏)‏ لأن في ذلك احتيالا للدرء المندوب إليه بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ادرؤوا الحدود ما استطعتم‏)‏‏.‏ أما السؤال عن ماهيته وكيفيته فلاحتمال أنه اشتبه عليه فظن غير الزنا زنا، فإن ما دون الزنا يسمى زنا مجازا، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏العينان تزنيان، اليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، ويحقق ذلك الفرج‏)‏‏.‏ وأما السؤال عن المكان والزمان فلاحتمال أنه زنا في دار الحرب أو في زمان الصبا، أو في المتقادم من الزمان فيسقط الحد على ما يأتي إن شاء الله تعالى‏.‏ وأما السؤال عن المزني بها لاحتمال أنها ممن تحل له أو له فيها شبهة لا يعرفها الشهود، فإن سألهم فقالوا‏:‏ لا نزيد على هذا لا يحدون لأنهم شهدوا بالزنا وهم أربعة وما قذفوا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإذا بينوا ذلك وذكروا أنها محرمة عليه من كل وجه، وشهدوا به كالميل في المكحلة وعدلوا في السر والعلانية حكم به‏)‏ لثبوته بالبينة، وكيفية التعديل ذكرناه في الشهادات، ولم يكتف أبو حنيفة رحمه الله بظاهر العدالة في الحدود احتيالا للدرء المندوب إليه ‏(‏فإن نقصوا عن أربعة فهم قذفة‏)‏ يحدون للقذف إذا طلب المشهود عليه لأنه تعالى أوجب الحد عند عدم شهادة الأربع، وكذلك إن جاءوا متفرقين إلا أن يكون في مجلس واحد في ساعة واحدة، لأن قولهم احتمل أن يكون شهادة، واحتمل أن يكون قذفا، وإنما تتميز الشهادة عن القذف إذا وقعت جملة، ولا يمكن ذلك دفعة واحدة منهم فاعتبرنا اتحاد المجلس وإن شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها لم يحد لقيام الشبهة لاحتمال أنها زوجته أو أمته‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن رجعوا قبل الرجم سقط وحدوا‏)‏ أما سقوط الحد فلبطلان الشهادة بالرجوع؛ وأما وجوب الحد عليهم فلأنهم قذفة ‏(‏وإن رجعوا بعد الرجم يضمنون الدية‏)‏ لأنهم تسببوا إلى قتله، والمتسبب تجب عليه الدية كحافر البئر ‏(‏وإن رجع واحدا فربعها‏)‏ لأنه تلف بشهادته ربع النفس؛ أو نقول‏:‏ بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق فيكون التالف بشهادته ربع الحق، ولا وجه إلى وجوب القصاص لأنه متسبب ولا قصاص على المتسبب، ويحد حد القذف مع الدية خلافا لزفر لأنه قذف حيا ومات فبطل؛ وإن كان قذف ميتا فقد رجم بقضاء فأورث شبهة‏.‏ ولنا أن الشهادة إنما تصير قذفا بالرجوع فيجعل قاذفا للميت حالة الرجوع فقد بطلت الحجة فبطل القضاء الذي يبتني عليها فلا يورث شبهة؛ وإن رجعوا بعد الجلد فالحد لما مر ولا يضمنون أرش السياط، وكذلك إن مات من الجلد، وقالا‏:‏ يضمنون، وإن رجع واحد فعليه ربع الأرش، وإن مات فربع الدية لأنه من الجلد وقد حصل بسبب الشهادة، فكان الشاهد هو الموجب كما في الرجم‏.‏ ولأبي حنيفة أن أثر الضرب والموت ليس موجب الشهادة، لأن الجلد قد يؤثر ولا يؤثر، وقد يموت منه ولا يموت، ولو كان موجب الشهادة لما انفك عنها كما في الرجم، وإذا لم يكن موجب الشهادة لا يلزم الشاهد ضمانه، ولأنه لو وجب إما أن يجب على الشاهد ولا وجه له لما بينا‏.‏ أو على الجلاد ولا وجه له أيضا لأنه مأذون في فعله لا على وجه البدل، ولم يتعمد تجاوز ما أمر به كمعين القصار، ولأنا لو أوجبناه عليه لامتنع الناس من ذلك وفيه ضرر جلي، أو على بيت المال، ولا وجه له، لأن الحكم غير موجب له لأنه ينفك عنه غالبا فلا يجب كما قلنا في الشاهد‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن شهدوا بزنا متقادم لم يمنعهم عن إقامته بعدهم عن الإمام لم تقبل‏)‏ لما روي أن عمر رضي الله عنه خطب فقال‏:‏ أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا عند حضرته فإنما هم شهود ضغن لا تقبل شهادتهم، ولأنها شهادة تمكنت فيها تهمة فتبطل‏.‏ بيانه أن الشهود إذا عاينوا الفاحشة فهم بالخيار إن شاؤوا شهدوا به حسبة لإقامة الحد، وإن شاؤوا ستروا على المسلم حسبة أيضا، فإن اختاروا الأداء حرم عليهم التأخير، لأن تأخير الحد حرام، فيحمل تأخيرهم على الستر حسبة حملا لهم على الأحسن، فإذا أخروا ثم شهدوا اتهموا أنهم إنما شهدوا لضغينة حملتهم على ذلك كما قال عمر رضي الله عنه، وإن كان تأخيرهم لا لحسبة الستر ثبت فسقهم وردت شهادتهم، بخلاف الإقرار لأن الإنسان لا يعادي نفسه فلا يتهم؛ ثم التقادم في الحدود الخالصة لله تعالى يمنع قبول الشهادة إلا إذا كان التأخير لعذر كبعد المسافة أو مرض ونحو ذلك؛ فحد الزنا والشرب والسرقة خالص حق الله تعالى حتى يصح رجوع المقر عنها فيكون التقادم فيها مانعا؛ وحد القذف فيه حق العبد لما فيه من دفع العار عنه، ولهذا توقف على دعواه ولا يصح الرجوع عنه، فالتقادم فيه لا يمنع قبول الشهادة لأن الدعوى فيه شرط، فاحتمل أن تأخيرهم لتأخير الدعوى فلا يتهمون في ذلك؛ ولا يلزم حد السرقة لأن الدعوى شرط للمال لا للحد، لأن الحد خالص حق الله، ولأن السرقة تكون في السر والخفية من المالك فيجب على الشاهد إعلامه، فبالتأخير يفسق أيضا‏.‏ وأما حد التقادم فأبو حنيفة لم يقدر في ذلك وفوضه إلى رأي الإمام كما هو دأبه‏.‏ وروى المعلى عن أبي يوسف قال‏:‏ جهدنا بأبي حنيفة أن يوقّت في التقادم شيئا فأبى، لأن التقادم يختلف باختلاف الأحوال والأعذار ورده إلى اجتهاد الحاكم‏.‏ وروى الحسن ومحمد عن أبي حنيفة أنهم إذا شهدوا بعد سنة لم تقبل شهادتهم، وهذا لا ينافي الأول لأنه جعل السنة تقادما ولم يمنع ما دونها‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ إذا شهدوا بعد مضي شهر فهو تقادم لأنه في حكم البعيد وما دونه في حكم القريب، فوجب أن يقدر التقادم به إذا لم يكن عذرا‏.‏ وعن الطحاوي ستة أشهر‏.‏ ‏(‏ويثبت بالإقرار، وهو أن يقر العاقل البالغ أربع مرات في أربع مجالس يرده القاضي في كل مرة حتى لا يراه ثم يسأله كما يسأل الشهود إلا عن الزمان، فإذا بين ذلك لزمه الحد‏)‏ أما اشتراط العقل والبلوغ فلأنهما شرط للتكاليف، وأما اشتراط الأربع فلما روي أن ماعز بن مالك أقر عند النبي عليه الصلاة والسلام فأعرض عنه، فعاد فأقر فأعرض عنه، فعاد الثالثة فأقر فأعرض عنه، فعاد الرابعة فأقر، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الآن أقررت أربعا فبمن‏؟‏‏)‏ وفي رواية ‏(‏فأعرض عنه حتى خرج من المسجد ثم عاد‏)‏ والتمسك به من وجوه‏:‏ أحدها أن الحد لو وجب بالمرة الواحدة لم يؤخره إلى الرابعة لأنه لا يجوز تأخير الحد إذا وجب، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏ما ينبغي لوالي حد أتى في حد من حدود الله تعالى إلا إقامته‏)‏‏.‏ الثاني أن قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الآن أمرت أربعا‏)‏ دليل على أن الموجب هو الإقرار أربعا، هذا هو المفهوم من فحوى هذا الكلام‏.‏ الثالث ما روي أن أبا بكر رضي الله عنه لما أقر الثالثة قال له‏:‏ إن أقررت الرابعة رجمك رسول الله، وهذا دليل على أنهم علموا أن الرابعة شرط لوجوب الرجم، ومثل هذا لا يعلم إلا توقيفا‏.‏ وكذلك روي عن أبي بريدة أنه قال‏:‏ ‏(‏كنا نتحدث بين يدي رسول الله عليه الصلاة والسلام أن ماعزا لو قعد في بيته بعد المرة الثالثة ولم يقر لم يرجمه صلى الله عليه وسلم‏)‏ وهذا دليل على أنهم عرفوه شريعة قبل رجم ماعز؛ ولأن الزنا اختص بزيادة تأكيد لم يجب في غيره من الحدود إعظاما لأمره وتحقيقا لمعنى الستر كزيادة عدد الشهور والسؤال عن حال المقر، فيناسب أن يختص بزيادة العدد في الأقارير أيضا واشتراط اختلاف المجالس لما روينا، ولأن اتحاد المجلس يؤثر في جميع المتفرقات فتثبت شبهة الاتحاد في الإقرار، والمعتبر اختلاف مجلس المقر لأن الإقرار قائم به دون القاضي، فإذا أقر أربعا على ما وصفنا يسأل القاضي عن حاله، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لماعز‏:‏ ‏(‏أبك داء‏؟‏ أبك خبل‏؟‏ أبك جنون‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ لا، وبعث إلى قومه فسألهم هل تنكرون من حاله شيئا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، فأمر به فرجم ‏(‏فإذا عرف صحة عقله سأله عن الزنا لما تقدم في الشهود، ولاحتمال أنه وطئها فيما دون الفرج واعتقده زنا، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال لماعز‏:‏‏)‏ لعلك لمست، لعلك قبّلت، لعلك باشرت‏؟‏ ‏(‏فلما ذكر ماعز النون والكاف قبل إقراره‏)‏ ويسأله عن المزني بها لأنه صلى الله عليه وسلم قال لماعز‏:‏ ‏(‏فبمن‏؟‏‏)‏ ولجواز أنه وطئ من لا يجب الحد بوطئها كجارية الابن والجارية المشتركة ونحوهما وهو لا يعلم ذلك، ويسأله عن المكان لما بينا ولا يسأله عن الزمان، لأن التقادم لا يمنع قبول الإقرار لما بينا، وقيل يسأله لجواز أنه زنى حالة الصغر، فإذا بين ذلك لزمه الحد لتمام الحجة ولما روينا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا رجع عن إقراره قبل الحد أو في وسطه خلي سبيله‏)‏ لأن رجوعه إخبار يحتمل الصدق كالإقرار ولا مكذب له‏.‏ فتحققت الشبهة لتعارض الإقرار بالرجوع، بخلاف القصاص وحد القذف لأنه حق العبد فإنه يكذبه فلا معارض للإقرار الأول‏.‏ ‏(‏وروي أن ماعزا لما مسه حر الحجارة هرب، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏'‏ خلا خليتم سبيله ‏'‏ ‏'‏ فجعل الهرب الدال على الرجوع مسقطا للحد فلأن يسقط بصريح الرجوع أولى‏.‏ ‏(‏ويستحب للإمام أن يلقنه الرجوع كقوله له‏:‏ لعلك وطئت بشبهة، أو قبلت، أو لمست‏)‏ لما روينا واحتيالا للدرء‏.‏ وروي أنه صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقال له‏:‏ ‏(‏إما إخالك سرقت‏)‏ وفيه دليل على جواز التلقين وعلى سقوط الحد بالرجوع وإلا لما أفاد التلقين‏.‏ وإذا أقر الخصي بالزنا يحد لأنه قادر على الإيلاج لسلامة آلته، ولو أقر المجبوب لا يحد لكذبه قطعا، وكذلك الشهادة عليهما، ولا يحد الأخرس بالإقرار إشارة للشبهة، وإذا أقر أنه زنى بامرأة غائبة أقيم عليه الحد استحسانا، والقياس أن لا يحدا حتى تحضر لجواز أنها تدعي شبهة لسقوط الحد‏.‏ وجه الاستحسان أن ماعزا أقر بالزنا بامرأة غائبة فرجمه صلى الله عليه وسلم قبل إحضارها‏.‏ المقضى برجمه إذا قتله إنسان أو فقأ عينه لا شيء عليه، ولو قتله قبل القضاء يجب القصاص في العمد والدية في الخطأ لأنه إنما يصير مباح الدم بالقضاء‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏حد الزنا‏]‏

‏(‏وحد الزاني إن كان محصنا الرجم بالحجارة حتى يموت‏)‏ لحديث ماعز أنه صلى الله عليه وسلم رجمه وكان محصنا‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث‏)‏ وذكر منها ‏(‏أو زنا بعد إحصان‏)‏ والنبي صلى الله عليه وسلم رجم الغامدية‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ مما أنزل الله آية الرجم ‏(‏الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة‏)‏ وهذا مما قالوا إنه قرآن نسخ لفظه وبقي معناه، وعلى ذلك إجماع العلماء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏يخرج إلى أرض فضاء‏)‏ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بماعز أمر برجمه ولم يحفر له قال‏:‏ ‏(‏فإن كان ثبت بالبينة يبتدئ الشهود ثم الإمام ثم الناس‏)‏ لما روي عن علي رضي الله عنه أنه بدأ برجم الهمدانية لما أقرت عنده بالزنا وقال‏:‏ الرجم رجمان‏:‏ رجم سر، ورجم علانية، فالعلانية أن يشهد على المرأة ما في بطنها، والسر أن يشهد الشهود فترجم الشهود ثم الإمام ثم الناس، ولأن البداءة بالشهود ضرب احتيال للدرء؛ لأن الشاهد قد يتجاسر على الأداء وتتعاظم المباشرة حرمة للنفس فيرجع عن الشهادة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فإذا امتنع الشهود أو بعضهم لا يرجم‏)‏ لأنه دليل رجوعهم، وكذا إذا غابوا في ظاهر الرواية لفوات الشرط، وكذا إذا ماتوا أو مات بعضهم، وكذا إذا جنوا أو فسقوا أو قذفوا فحدوا أو حد أحدهم أو عمي أو خرس أو ارتد، لأن الطارئ على الحد قبل الاستيفاء كالموجود في الابتداء كما في رجوع المقر فصار كأنهم شهدوا وهم بهذه الصفة فلا يحد‏.‏ وعن أبي يوسف‏:‏ إذا غاب الشهود رجم ولم ينتظروا، وكذا إذا امتنعوا أو امتنع بعضهم لأنه حد فلا يشترط فيه مباشرة الشهود كالجلد‏.‏ قلنا الجلد لا يحسنه كل أحد فربما وقع مهلكا، ولا كذلك الرجم لأنه إتلاف‏.‏ وعن محمد‏:‏ إذا كانوا مرضى أو مقطوعي الأيدي يبتدئ الإمام ثم الناس لأن الامتناع إذا كان بعذر ظاهر زالت التهمة، ولا كذلك لو ماتوا لاحتمال الرجوع أو الامتناع فكان ذلك شبهة؛ ولا بأس لكل من رمى أن يتعمد مقتله لأنه واجب القتل إلا أن يكون ذا رحم منه، فالأولى أن لا يتعمد مقتله ويولى ذلك غيره لأنه نوع من قطيعة الرحم من غير حاجة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن ثبت بالإقرار ابتدأ الإمام ثم الناس‏)‏ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم حفر للغامدية حفرة إلى صدرها وأخذ حصاة مثل الحمصة فرماها بها وقال‏:‏ ‏(‏ارموا واتقوا الوجه‏)‏ فلما طعنت أخرجها وصلى عليها وقال‏:‏ ‏(‏لقد تابت توبة لو قسمت على أهل الحجاز لوسعتهم‏)‏ ولحديث عليه رضي الله عنه، ولا ينبغي أن يربط المرجوم ولا يمسك ولا يحفر للرجل لكنه يقام قائما ثم يرجم لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل شيئا من ذلك بماعز، وما نقل أنه هرب دليل عليه، ويغسل ويكفن ويصلى عليه لما مر من حديث الغامدية‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم في ماعز‏:‏ ‏(‏اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم، فقد تاب توبة لو تابها صاحب مكس غفر له، ولقد رأيته ينغمس في أنهار الجنة‏)‏ ولأنه مقتول بحق فصار كالمقتول قصاصا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن لم يكن محصنا فحده الجلد مائة للحر وخمسون للعبد‏)‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ‏(‏‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ وقال تعالى في حق الإماء‏:‏ ‏{‏فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏يضرب بسوط لا ثمرة له ضربا متوسطا يفرقه على أعضائه إلا رأسه ووجهه وفرجه‏)‏ لأن عليا رضي الله عنه كرس ثمرة السوط لما أراد إقامة الحد به والمتوسط من الضرب بين المتلف وغير المؤلم ليحصل المقصود، وهو الانزجار بدون الهلاك‏.‏ وأما التفريق على الأعضاء لأنه إذا جمع الضرب في مكان واحد ربما أدى إلى التلف، والحد غير متلف، وليدخل الألم على كل عضو كما وصلت اللذة إليه، إلا أنه يتقي الأعضاء التي لا يؤمن فيها التلف، أو تلف ما ليس بمستحق، إذ التلف ليس بمستحق فالرأس والفرج مقتل، والوجه مكان البصر والشم‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه أنه قال للجلاد‏:‏ اتق الرأس والوجه‏.‏ وعن أبي يوسف أنه يضرب الرأس، فقد روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ اضربوا الرأس فإن الشيطان فيه، ولأنه لا يخشى التلف بسوط وسوطين، وجوابه ما مر، وأثر الصديق ورد في حربي كان راعيا وهو مستحق القتل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويجرد عن ثيابه إلا الإزار‏)‏ هكذا نقل عن علي رضي الله عنه، ولأنه أبلغ في إيصال الألم إليه، وحد الزنا مبناه على شدة الضرب فيقع أبلغ في الزجر، ونزع الإزار يؤدي إلى كشف العورة فلا ينزع‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا تجرد المرأة إلا عن الفرو والحشو‏)‏ لأن مبنى حالهن على الستر، وفي نزع ثيابها كشف عورتها، والستر يحصل بدون الحشو والفرو، وفيهما منع من وصول الألم فينزعان وتضرب جالسة لأنه أستر لها‏.‏ وعن علي رضي الله عنها‏:‏ يضرب الرجال في الحدود قياما والنساء قعودا ‏(‏وإن حفر لها في الرجم جاز‏)‏ لما روينا من حديث الغامدية، وعلي رضي الله عنه حفر للهمدانية، وإن تركه لا يضر لأنه غير مأمور به ‏(‏ويضرب الرجل قائما في جميع الحدود‏)‏ لحديث علي رضي الله عنه، ولا يمد ولا يشد لأنه زيادة عقوبة غير مستحقة عليه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يجمع على المحصن الجلد والرجم‏)‏ لأنه صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا ولم يجلده، ولأنه لا فائدة في الجلد، لأن المراد من الحد الزجر وهو لا ينزجر بعد هلاكه، وزجر غيره يحصل بالرجم إذ القتل أبلغ العقوبات، وهو مذهب عامة العلماء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يجمع على غير المحصن الجلد والنفي‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الزانية والزاني فاجلدوا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ الآية، وأنه بيان لجميع الحكم لأنه كل المذكور، أو لأنه ذكره بحرف الفاء وهو الجزاء، فلا يزاد عليه إلا بدليل يساويه أو يترجح عليه، إذ الزيادة على النص نسخ، ولأن النفي يفتح عليها باب الزنا لقلة استحيائها من عشيرتها وفيه قطع المادة عنها فربما اتخذت ذلك مكسبا وفيه من الفساد ما لا يخفى، وإليه الإشارة بقول عليه رضي الله عنه‏:‏ كفى بالتغريب فتنة‏.‏ وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام‏)‏ قلنا الآية متأخرة عنه فنسخته‏.‏ بيانه أن الجلد في الأصل كان الإيذاء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآذوهما ‏(‏‏[‏النساء‏:‏ 16‏]‏ ثم نسخ بالحبس بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأمسكوهن في البيوت‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 15‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أو يجعل الله لهن سبيلا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 15‏]‏ ثم قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا‏)‏ الحديث فكان بيانا للسبيل الموعود في الآية، وذلك قبل نزول آية الجلد، فكانت ناسخة للكل، أو نقول‏:‏ هو حديث آحاد فلا يزاد به على الكتاب لما بينا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إلا أن يراه الإمام مصلحة فيفعله بما يراه‏)‏ فيكون سياسة وتعزيرا لا حدا، وهو

تأويل ما روي من التغريب عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فإنه روي عن عمر أنه نفى رجلا فلحق بالروم فقال‏:‏ لا أنفي بعدها أحدا؛ ولو كان النفي حدا لم يجز تركه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ‏(‏‏[‏النور‏:‏ 2‏]‏ فدل أنه كان سياسة وتعزيرا، ولأنه لو كان حدا لاشتهر بين الصحابة كسائر الحدود، ولو اشتهر لما اختلفوا فيه؛ وقد اختلفوا لما تقدم من قول علي ورجوع عمر فدل على أنه ليس بحد، ولا يقام الحد في مسجد‏.‏ وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقام الحدود في المساجد‏)‏ وروى حكيم بن حزام قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله أن يستقاد في المساجد أو ينشد فيها الشعر أو يقام فيها الحدود‏)‏ ولأنه عساه ينفصل منه ما ينجس المسجد، وللإمام أن يخرجه إلى باب المسجد ويأمر من يجلده وهو يشاهده، ويجوز له أن يبعث بأمين ويأمره بإقامة الحد‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم في حديث العسيف‏:‏ ‏(‏واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يقيم المولى الحد على عبده إلا بإذن الإمام‏)‏ لأن الحد حق الله تعالى فلا يستوفيه إلا نائبه، وهو الإمام أو نائبه؛ بخلاف التعزير لأنه حق العبد حتى جاز تعزير الصبي، وحقوق الشرع موضوعة عنه، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أربع إلى الولاة‏)‏ وعد منها إقامة الحدود، ولأن المولى متهم في إقامة الحد على عبده لأنه يخاف نقصان ماليته فلا يضرب الضرب المشروع فلا تحصل مصلحة الزجر فلا يكون له ذلك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا كان الزاني مريضا فإن كان محصنا رجم‏)‏ لأن الإتلاف مستحق عليه فلا معنى للتأخير‏.‏ قال‏:‏ وإلا لا يجلد حتى يبرأ‏)‏ لأنه ربما أفضى إلى الهلاك وليس مشروعا، ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم بحسم يد السارق، ولهذا لا يقطع في البرد الشديد و الحر الشديد‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والمرأة الحامل لا تحد حتى تضع حملها‏)‏ لأنه يخاف من الحد هلاك ولدها البريء عن الجناية‏.‏ وروي أن عمر رضي الله عنه همّ برجم حامل، فقال له علي رضي الله عنه‏:‏ إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها فخلي عنها، فإذا ولدت ‏(‏فإن كان حدها الجلد فحتى تتعالى من نفاسها‏)‏ لأنها مريضة ضعيفة ‏(‏وإن كان الرجم فعقيب الولاة‏)‏ لأن التأخير كان بسبب الولد وقد انفصل عنها ‏(‏وإن لم يكن للصغير من يربيه فحتى يستغني عنها‏)‏ لأن في ذلك صيانة الولد عن الهلاك‏.‏ وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال للغامدية لما أقرت بالزنا وهي حامل‏:‏ ‏(‏اذهبي حتى تضعي‏)‏، فلما وضعت جاءت، فقال لها‏:‏ ‏(‏ارجعي حتى يستغني ولدك‏)‏، فجاءت وفي يده خبز فقالت‏:‏ يا رسول الله هذا ولدي وقد استغنى، فأمر بها فرجمت ‏(‏ويحبس المريض حتى يبرأ والحامل حتى تضع إن ثبت بالبينة مخافة أن تهرب، وإن ثبت بالإقرار لا يحبس لأن الرجوع عنه صحيح فلا فائدة في الحبس، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحبس الغامدية؛ ولو قالت الزانية‏:‏ أنا حبلى يريها النساء، فإن قلن هي حبلى حبسها سنتين ثم رجمها، وهذا التقادم لا يمنع الإقامة لأنه بعذر؛ ولو كان من عليه الحد ضعيف الخلقة يخاف عليه الهلاك لو ضرب شديدا يضرب مقدار ما يتحمله من الضرب‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإحصان الرجم‏:‏ الحرية والعقل والبلوغ والإسلام والدخول، وهو الإيلاج في القبل في نكاح صحيح وهما بصفة الإحصان‏)‏ أما الحرية فلقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب‏)‏ ^ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏ أوجب عليهن عقوبة تنتصف والرجم لا تتنصف فلا يجب على الإماء، وأما العقل والبلوغ فلأنه لا خطاب بدونهما، وأما الإسلام فلقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أشرك بالله فليس بمحصن‏)‏ وما روي أنه صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين فإنما رجمهما بحكم التوراة والقصة مشهورة‏.‏ وأما النكاح الصحيح والدخول فلقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏البكر بالبكر جلد مائة‏)‏ والبكر اسم لمن لم يتزوج ولأن به يتوصل إلى الوطء الحلال، وإنما يشترط الدخول لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة‏)‏ والثيب هو الواطئ في النكاح الحلال في القبل، ولأن هذه نعم متوافرة متكاملة صادة له عن الفاحشة فكانت جنايته عند وجودها متغلظة، فإن الجناية والمعصية عند تكامل نعم المنعم أقبح وأفحش فيناسب تغليظ العقوبة في حقه‏.‏ وأما كونهما على صفة الإحصان فلأن كل وطء لا يوجب إحصان أحد الواطئين لا يوجب إحصان الآخر كالمملوكين والمجنونين‏.‏ وصورته‏:‏ لو تزوج بأمة أو صبية أو مجنونة أو كافرة ودخل بها لم يصر محصنا، وكذا لو كانت حرة عاقلة بالغة وهو عبد أو صبي أو مجنون لا تصير محصنة إلا إذا دخل بها بعد الإسلام والعتق والبلوغ والإفاقة، فحينئذ يصير محصنا بهذه الإصابة لا بما قبلها، لأن نعم الزوجية لا تتكامل مع هؤلاء، لأن هذه المعاني تنفر الطباع إما لعداوة الدين أو لذل الرق أو لعدم العقل أو لنقصانه وعدم ميل الصبية إليه فلا تتغلظ جنايته‏.‏ وعن أبي يوسف أنه لا يشترط الدخول على صفة الإحصان، وعنه أن الوطء إذا حصل قبل العتق ثم أعتقا صارا محصنين بالوطء الأول‏.‏ والجواب عن الأول أن كل وطء لا يوجب إحصان أحدهم لا يوجب إحصان الآخر كما بينا‏.‏ وعن الأخرى أن كل وطء لا يوجب الإحصان عند وجوده لا يوجبه في الثاني من الزمان كوطء المولى‏.‏ وعن أبي يوسف إذا دخل بامرأته ثم جن أو صار معتوها ثم أفاق لا يكون محصنا حتى يدخل بها بعد الإفاقة، لأن الإحصان الأول بطل فلا يثبت إحصان مستأنف إلا بدخول مستأنف‏.‏ قال ‏(‏ويثبت الإحصان بالإقرار‏)‏ لأنه غير متهم في حق نفسه ‏(‏أو بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين‏)‏ لأن الإحصان ليس علة لوجوب الرجم لأنه عبارة عن خصال حميدة وأوصاف جميلة وذلك لا أثر له في العقوبة فلا يشترط لثبوته ما يشترط لوجوب الرجم، وإنما الإحصان شرط محض ‏(‏وكذلك إن كان بينهما ولد معروف‏)‏ لأنه دليل ظاهر على الدخول في النكاح الصحيح وذلك يثبت به الإحصان؛ ويكفي في الإحصان أن يقول الشهود دخل بها‏.‏ وقال محمد‏:‏ لا بد أن يقولوا باضعها أو جامعها، لأن الدخول مشترك فلا يثبت الإحصان بالشك‏.‏ ولهما أن الدخول متى أضيف إلى المرأة بحرف الباء لا يراد به إلا الجماع‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم تكونوا دخلتم بهن‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ والمراد الجماع، ولو دخل بامرأة ثم طلقها وقال وطئها وأنكرت صار محصنا ولا تكون محصنة لجحودها، وكذا لو قالت بعد الطلاق‏:‏ كنت نصرانية، وقال‏:‏ كنت حرة مسلمة، وإذا كان أحدهما محصنا دون الآخر خص كل واحد بحده، لأن جناية أحدهما أخف والآخر أغلظ، فإذا اختلفا في الجناية اختلفا في موجبها ضرورة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏فيمن وطئ جارية ولده‏]‏

‏(‏ومن وطئ جارية ولده وإن سفل وقال‏:‏ علمت أنها عليّ حرام، أو وطئ جارية أبيه وإن علا أو أمه أو زوجته أو سيده أو معتدته عن ثلاث وقال‏:‏ ظننت أنها حلال لم يحد؛ ولو قال‏:‏ علمت أنها حرام حد؛ وفي جارية الأخ والعم يحد بكل حال‏)‏ والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ادرؤوا الحدود بالشبهات‏)‏‏.‏ ثم الشبهة أنواع‏:‏ شبهة في المحل، وشبهة في الفعل، وهي شبهة الاشتباه، وشبهة في العقد‏.‏ أما الشبهة في المحل فهو أن يطأ جارية ابنه أو عبده المأذون المديون أو مكاتبه، أو وطئ البائع الجارية المبيعة بيعا فاسدا قبل القبض وبعده، أو كان بشرط الخيار، أو وطئ الجارية التي جعلها صداقا قبل التسليم، أو وطئ المبانة بالكنايات في عدتها، أو وطئ الجارية المشتركة فإنه لا يجب الحد في جميع هذه الصور‏.‏ وإن قال‏:‏ علمت أنها حرام لأن الشبهة في الملك وهو المحل موجودة سواء علم بالتحريم أو لم يعلم‏.‏ وأما شبهة الفعل ففيما إذا وطئ جارية أبيه أو أمه أو جارية زوجته والمطلقة ثلاثا أو على مال في العدة أو أم ولده بعد العتق في العدة أو جارية مولاه، والمرتهن يطأ جارية الرهن في إحدى الروايتين، وفي رواية يجب الحد‏.‏ فإن قال ظننت أنها حلال لا حد عليه، وإن قال‏:‏ علمت أنها حرام حد لأنه ظن أن الفعل مباح له كما يباح له الانتفاع بماله، أو له نوع حق في المحل ببقاء العدة فظن أن ذلك يبيح وطأها فكان ظنه مستندا إلى دليل فكان شبهة في درء الحد إذا ادّعى الحل، وبدون الدعوى انعدمت الشبهة ولا يثبت النسب وإن ادّعاه لأنه زنا محض، لأن سقوط الحد لاشتباه الأمر عليه لا للشبهة في نفس الأمر، فإن حضرا فقال أحدهما‏:‏ ظننت أنه حلال لا حد على واحد منهما حتى يقرا جميعا بالحرمة، لأن أحدهما إذا ادّعى الشبهة خرج فعله عن أن يكون زنا فخرج فعل الآخر فسقط الحد عنهما، ولو وطئ الجارية المستأجرة أو المستعارة أو جارية أخيه أو عمه أو ذي رحم محرم غير الولاد حد في الوجهين جميعا لأنه لم يستند ظنه إلى شبهة صحيحة لأنه لا يحل له الانتفاع بمال هؤلاء، وملك المنفعة لا يكون سببا لملك المتعة بحال‏.‏ وأما شبهة العقد بأن وطئ امرأة تزوجها بغير شهود أو أمة بغير إذن مولاها أو تزوج العبد بغير إذن مولاه، أو أمة على حرة لا حد عليه؛ ولو تزوج مجوسية أو خمسة في عقدة، أو جمع بين أختين أو تزوج بمحارمه فوطئها فإنه لا يحد عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن قال علمت أنها عليّ حرام‏.‏ وعندهما يحد إذا كان عالما بالحرمة لأنه عقد لم يصادف محله، لأن محله ما يثبت فيه حكمه، وحكمه الحل وهو غير ثابت بالإجماع فصار كإضافة العقد إلى الذكر‏.‏ ولأبي حنيفة أنه عقد صادف محله، لأن محله ما هو صالح لحصول المقصود، والمقصود من النكاح التوالد والتناسل والأنثى من الآدميات قابلة لذلك، وقضيته ثبوت الحل أيضا إلا أنه تقاعد عنه فأورث شبهة وأنها تكفي لسقوط الحد إلا أنه يجب عليه التعزير ويوجع عقوبة لأنه ارتكب جناية ليس فيها حد مقدر فيعزر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولو استأجر امرأة ليزني بها وزنى بها أو وطئ أجنبية فيما دون الفرج، أو لاط فلا حد عليه ويعزر‏)‏ وقالا‏:‏ يحد في المسائل كلها‏.‏ لهما في الإجارة أن منافع البضع لا تملك بالإجارة فصار وجود الإجارة وعدمها سواء، فصار كأنه وطئها من غير

شرط‏.‏ وله ما روي أن امرأة استسقت راعيا لبنا فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها ففعلت، ثم رفع الأمر إلى عمر رضي الله عنه، فدرأ الحد عنهما وقال ذلك مهرها، ولأن الإجارة تمليك المنافع، ومنافع البضع منافع فأورث شبهة وصار كالمتعة‏.‏ ولهما في اللواطة أنها كالزنا لأنها قضاء الشهوة في محل مشتهى على وجه الكمال وقد تمحض حراما فيجب الحد كالزنا، والصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على وجوب الحد فيها، لكن اختلفوا فيه‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ يحرق بالنار‏.‏ وقال علي‏:‏ عليه حد الزنا‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يحبسان في أنتن موضع حتى يموتا‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يهدم عليهما جدار‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ينكس من مكان مرتفع‏.‏ وله أنه لا يسمى زنا لغة ولا شرعا، لأن كل واحد منهما اختص باسم، وأنه ينفي الاشتراك كاسم الحمار والفرس فلا يكون زنا فلا يلحق بالزنا في الحد، إذ الحدود لا تثبت قياسا، ولأنه لا يوجب المال بحال ما فلا يتعلق به الحد كما إذا فعل فيما دون السبيلين، ولأنه لو كان زنا لما اختلفت الصحابة رضي الله عنهم في حده، فإن حد الزنا منصوص عليه في محكم القرآن ومتواتر السنة، وليس هو في معنى الزنا لأنه ليس فيه إضاعة الولد ولا اشتباه الأنساب فلا يلحق به‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقتلوا الفاعل والمفعول به‏)‏ محمول على الاستحلال أو السياسة لوجوب القتل مطلقا من غير اشتراط الإحصان، ويجب التعزير عند أبي حنيفة رحمه الله لما قلنا، ويسجن زيادة في العقوبة لغلظ الجناية‏.‏ وأما وطء الأجنبية فيما دون الفرج، فإن كان في الدبر فهو كاللواطة حكما واختلافا وتعليلا، وإن كان فيما دون السبيلين فإنه يعزر بالإجماع‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولو زفّت إليه غير امرأته فوطئها لا يحد وعليه المهر‏)‏ بذلك حكم عمر رضي الله عنه، ولأن الرجل لا يعرف امرأته أول مرة إلا بأخبار النساء فقد اعتمد دليلا، لأن الملك ثابت من حيث الظاهر بأخبارهن، ولا يحد قاذفه لأن الملك معدوم حقيقة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولو وجد على فراشه امرأة فوطئها حد‏)‏ لأنه يمكنه معرفة زوجته بكلامها وصوتها وجسها وحركتها ومسها، فإذا لم يتفحص عن ذلك لم يعذر بخلاف ما تقدم، وكذلك الأعمى إلا إذا دعاها فقالت أنا زوجتك لأنه اعتمد إخبارها وهو دليل، ولو أجابته ولم تقل أنا فلانة حد، لأنه يمكنه التفحص بالسؤال وغيره، لأن الجواب قد يكون من غير من ناداها فيجب عليه التفحص عن حالها‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والزنا في دار الحرب والبغي لا يوجب الحد‏)‏ إذ المقصود هو الانزجار وهو غير حاصل لانقطاع الولاية، لأنه إذا لم ينعقد موجبا لا ينقلب موجبا، حتى لو غزا الإمام أو من له ولاية الإقامة فإنه يقيم الحد عليهم لأنهم تحت ولايته‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وواطئ البهيمة يعزر‏)‏ لأنه ليس بزنا ولا معناه فلا يجب الحد فيعزر لما بينا‏.‏ وذكر ابن سماعة عن أصحابنا رحمهم الله أن كل ما لا يؤكل لحمه يحرق بالنار، لما روى أبو يوسف بإسناده إلى عمر رضي الله عنه أنه أتى برجل وقع على بهيمة فعزره وأمر بالبهيمة فذبحت وأحرقت بالنار، وإن كان مما يؤكل تذبح وتؤكل ولا تحرق، وقالا‏:‏ يحرق أيضا هذا إذا كانت البهيمة للفاعل، فإن كانت لغيره يطالب صاحبها أن يدفعها إليه بقيمتها ثم يذبحها، وهذا إنما يعرف سماعا لا قياسا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولو زنى بصبية أو مجنونة حد‏)‏ خاصة ‏(‏ولو طاوعت العاقلة البالغة صبيا أو مجنونا لا يحد‏)‏ والفرق أن الحد يجب على الرجل بفعل الزنا، وعلى المرأة بالتمكين من الزنا، والمأخوذ في حد الزنا الحرمة المحضة‏.‏ وذلك غير موجود في فعل الصبي لعدم المخاطبة نحوه، فلا يكون فعلها تمكينا من الزنا فلا يجب الحد، وفعل العاقل البالغ تمحض حراما فوجب عليه الحد، ولم يجب على الصبية والمجنونة لعدم التكليف‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وأكثر التعزير تسعة وثلاثون سوطا، وأقله ثلاثة‏)‏ وقيل ما يراه الإمام، وقيل بقدر الجناية؛ والأصل أن يعزره بما ينزجر به في أكبر رأيه لاختلاف طباع الناس في ذلك، وإن رأى الإمام أن يضم الحبس إلى التعزير فعل، لأنه يصلح زاجرا حتى يكتفي به وقد ورد الشرع به‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ أكثره خمسة وسبعون سوطا، وفي رواية تسعة وسبعون، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين‏)‏ فهما اعتبرا أدنى الحد، وهو حد العبد في الشرب والقذف وهو أربعون فنقصا منه سوطا، وأبو يوسف اعتبر الأقل من حد الأحرار وهو ثمانون فنقص عنه خمسة في رواية، وهو مأثور عن علي رضي الله عنه، وفي رواية سوطا، وهو قول زفر، وهو القياس، لأنه نقصان حقيقة، وتعزير العبد أكثره خمسة وثلاثون عند أبي يوسف فلا يبلغ في تعزيره حد العبيد، ولا في تعزير الحر حد الأحرار‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والتعزير أشد الضرب‏)‏ لأنه خفف من جهة العدد فيثقل من جهة الوصف كيلا يفوت المقصود وهو الانزجار، ولهذا قلنا لا يفرق على الأعضاء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ثم حد الزنا‏)‏ لأنه ثبت بدليل مقطوع به وهو الكتاب، ولأنه أعظم جريمة حتى وجب فيه الرجم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ثم حد الشرب‏)‏ لأن سببه متيقن به‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ثم حد القذف‏)‏ لأن سببه محتمل، لأنه يحتمل صدق القاذف، والله أعلم‏.‏

باب حد القاذف

القذف في اللغة‏:‏ الرمي مطلقا، ومنه القذافة والقذيفة‏:‏ للمقلاع الذي يرمي به، وقولهم بين قاذف وحاذف‏:‏ أي رام بالحصى وحاذف بالعصى، والتقاذف‏:‏ الترامي، ومنه الحديث ‏(‏كان عند عائشة رضي الله عنها قينتان تغنيان بما تقاذف فيه الأنصار من الأشعار يوم بعاث‏)‏ أي تشاتمت، وفيه معنى الرمي، لأن الشتم رمي بما يعيبه ويشينه، وهو في الشرع‏:‏ رمي مخصوص، وهو الرمي بالزنا، ومنه الحديث‏:‏ إن هلال بن أمية قذف زوجته‏:‏ أي رماها بالزنى وقد تكرر في الحديث وفيه الحد‏.‏ ‏(‏وهو ثمانون سوطا للحر، وأربعون للعبد؛ ويجب بقذف المحصن بصريح الزنا‏)‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ‏(‏‏[‏النور‏:‏ 4‏]‏‏.‏ والمراد بالرمي القذف بالزنا إجماعا، ويتنصف في العبد لما مر ‏(‏وتجب إقامته بطلب المقذوف‏)‏ لما فيه من حقه وهو دفع العار عنه‏:‏ وصريح الزنا قوله‏:‏ يا زاني أو زنيت، أو يا ابن الزانية؛ ولو قال‏:‏ يا ابن الزنى فهو قذف معناه‏:‏ أنت متولد من الزنا، ويجب الحد بأي لسان قذفه، ويجب عند عجز القاذف عن إقامة أربعة شهود على صدق مقالته فيضرب ثمانين وترد شهادته أبدا لما تلونا من صريح النص‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويفرّق عليه‏)‏ لما مر في الزنا ‏(‏ولا ينزع عنه إلا الفرو والحشو‏)‏ لأن سببه غير مقطوع به، وإنما ينزع عنه الفرو والحشو لأنه يمنع إيصال الألم إليه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويثبت بإقراره مرة واحدة وبشهادة رجلين‏)‏ كما في سائر الحقوق على ما مر في الشهادات ‏(‏ولا يبطل بالتقادم والرجوع‏)‏ لتعلق حق العبد به لما مر في حد الزنا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإحصان القذف‏:‏ العقل والبلوغ والحرية والإسلام والعفة عن الزنا‏)‏ أما الحرية والإسلام فلما مر في حد الزنا، وأما العقل والبلوغ فلأن الصبي والمجنون لا يلحقهما العار لعدم تحقق فعل الزنا منهما، وأما العفة فلأن غير العفيف لا يلحقه العار، ولأن حد القذف يجب جزاء على الكذب والقاذف لغير العفيف صادق‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن قال لغيره‏:‏ يا ابن الزانية، أو لست لأبيك حد‏)‏ لأنه صريح في القذف، لأن قوله ليست لأبيك كقوله يا ابن الزانية، ولو نفاه عن جده أو نسبه إليه أو إلى خاله أو عمه أو زوج أمه، أو قال يا ابن ماء السماء لم يحد، لأن نفيه عن جده صدق ونسبته إليه وإلى هؤلاء مجاز عادة وشرعا‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏ وإبراهيم جده وإسماعيل عمه، وقوله يا ابن ماء السماء يراد به التشبيه في السماحة والصفاء وطهارة الأصل، حتى لو كان رجلا اسمه ماء السماء وأراد نسبته إليه فهو قذف؛ ومن قال لغيره‏:‏ لست بابن فلان، إن كان في حالة الغضب حد لأنه يراد به السب، وإن لم يكن في حالة الغضب لا يحد، لأنه يراد به المعاتبة عادة لنفي شبهه لأبيه في الكرم والمروءة؛ ولو قال لامرأة‏:‏ زنيت بحمار أو بثور لا يحد؛ ولو قال‏:‏ زنيت بدراهم وبثوب أو بناقة حد؛ لأن معناه زنيت وأخذت هذا، وفي الرجل لا يحد في جميع ذلك لأن الرجل لا يأخذ المال على الزنا عرفا، ولو قال لأجنبية‏:‏ يا زانية، فقالت‏:‏ زنيت بك لا يحد الرجل لتصديقها وتحد المرأة لقذفها الرجل‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يطالب بقذف الميت إلا من يقع القدح بقذفه في نسبه‏)‏ لأن العار يلحقهم للجزئية، ويحد بقذف أصوله دون فروعه فيثبت للولد وولد الولد وإن كان كافرا أو عبدا، لأن الشرط إحصان الذي ينسب إلى الزنا حتى يقع تعييرا كاملا ثم يرجع هذا التعيير إلى ولده، والرق والكفر لا ينافي أهلية الاستحقاق، بخلاف ما إذا وقع القذف ابتداء للكافر والعبد، لأنه لم يوجد التعيير كاملا على ما بينا‏.‏ وعن محمد ليس لولد البنت طلب الحد بقذف جده أبي أمه، لأن نسبته إلى غيره، وجوابه أن العار يلحقه كما يلحق ولد الابن فكانوا سواء‏.‏ ومن قذف امرأة ميتة فصدقه بعض الورثة يحد للباقين، لأن قذف الأم تناول الكل فكان بمنزلة ما لو قذف الكل فصدقه البعض دون البعض فإنه يحد لمن لم يصدقه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وليس للابن والعبد أن يطالب أباه أو سيده بقذف أمه الحرة‏)‏ لأن الأب لا يعاقب بسبب ابنه ولا السيد بسبب عبده حتى لا يقتلان بهما‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن وطئ وطئا حراما في غير ملكه والملاعنة بولد لا يحد قاذفهما‏)‏ لفوات العفة، وكذا إذا قذف امرأة معها أولاد لا يعرف لهم أب لأن ذلك أمارة الزنا ‏(‏وإن لاعنت بغير ولد حد‏)‏ لعدم أمارة الزنا‏.‏ اعلم أنه إن وطئ وطئا حراما فلا يخلو إما إن كان حراما لعينه أو لغيره؛ أما إن كان حراما لعينه سقط إحصانه لأنه زنا ولا يحد قاذفه، وإن كان حراما لغيره لا يسقط إحصانه ويحد قاذفه لأنه ليس بزنا، فالوطء في غير الملك من كل وجه أو من وجه حرام لعينه وكذا الوطء في ملكه والحرمة مؤبدة، وإن كانت مؤقتة فالحرمة لغيره‏.‏ وعند أبي حنيفة يشترط للحرمة المؤبدة الإجماع أو الحديث المشهور‏.‏ بيان ذلك في صور المسائل وهي‏:‏ الوطء بالنكاح الفاسد والأمة المستحقة والإكراه على الزنا والمجنون والمطاوعة والمحرمة بالمصاهرة بالوطء ووطء الأب جارية ابنه، ففي هذه المسائل يسقط الإحصان ولا يحد قاذفه لأنه حرام لعينه وإن لم يأثم إما للجهل أو للإكراه، بخلاف ثبوت المصاهرة بالتقبيل والمس لأن كثيرا من الفقهاء لا يرون ذلك محرما، ولا نص في إثبات الحرمة، بل هو نوع احتياط إقامة للسبب مقام المسبب فلا يسقط الإحصان الثابت بيقين بالشك‏.‏ وذكر في المحيط عن أبي يوسف ومحمد يسقط إحصانه لأنها حرمة مؤبدة عندهما، وجوابه ما مر بخلاف الوطء لأن فيه نصا، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ‏(‏‏[‏النساء‏:‏ 22‏]‏ وقد قام الدليل على أن النكاح حقيقة في الوطء ولا اعتبار للاختلاف مع صريح النص‏.‏ وأما الحرمة المؤبدة في الملك الأخت من الرضاع والجارية المشتركة فإنما يسقط الإحصان لأنه ينافي ملك المتعة فيكون الوطء واقعا في غير الملك فيصير له شبه بالزنا‏.‏ والحرمة المؤقتة كالمجوسية والحائض والمظاهر منها والحرمة باليمين والأمة المنكوحة والمعتدة من غيره ووطء الأختين بملك اليمين والمكاتبة والمشتراة شراء فاسدا فلا يسقط الإحصان، لأن مع قيام الملك في المحل لا يكون الفعل زنا ولا في معناه والحرمة على شرف الزوال‏.‏ ومن قذف كافرا زنى في حالة الكفر لا يحد لأن زناه في الكفر حرام؛ ولو قذف مكاتبا مات عن وفاء لا يحد لوقوع الاختلاف في حريته‏.‏ ولو قذف مجوسيا تزوج بأمه ودخل عليها ثم أسلم حد عند أبي حنيفة خلافا لهما بناء على أن له حكم الصحة عنده خلافا لهما وقد مر في النكاح‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والمستأمن يحد بالقذف‏)‏ لما فيه من حق العبد وقد التزم إيفاء حقوق العباد‏.‏ وكان أبو حنيفة يقول أولا‏:‏ لا يحد لغلبة حق الله تعالى والمختار الأول، ولا يحد في الخمر بالإجماع لأنه يرى حله‏.‏ وأما حد الزنا والسرقة، قال أبو يوسف‏:‏ يحد فيهما كالذمي، ولهذا يقتص منه بالإجماع ولا يحد فيهما عندهما لأنه لا يلزمه إلا ما التزم وهو إنما التزم حقوق العباد ضرورة التمكن من المعاوضات والرجوع إلى بلده، ولم يلتزم حقوق الله تعالى، بخلاف القصاص فإنه حق العباد‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإذا مات المقذوف بطل الحد‏)‏ ولو مات بعد ما أقيم بعض الحد بطل الباقي ‏(‏ولا يورث، ولا يصح العفو عنه ولا الاعتياض‏)‏ ولذلك يجري فيه التداخل، وهذا بناء على أن الغالب فيه حق الشرع، ولا خلاف أن فيه حق العبد والشرع، لأنه شرع لدفع العار عن المقذوف وهو المنتفع به وفيه معنى الزجر ولأجله يسمى حدا؛ والمراد بالزجر إخلاء العالم عن الفساد، وهذا آية حق الشرع، ثم اختلفوا في الغالب فيهما، فأصحابنا غلبوا حق الشرع، لأن حق العبد يتولاه مولاه فيصير حق العبد مستوفى ضمنا لحق المولى، ولا كذلك بالعكس، إذ لا ولاية للعبد على استيفاء حق الشرع إلا بطريق النيابة‏.‏

فصل‏:‏ ‏[‏فيمن قال لمسلم‏:‏ يا فاسق، أو يا خبيث‏]‏

‏(‏ومن قال لمسلم‏:‏ يا فاسق، أو يا خبيث، أو يا كافر، أو يا سارق، أو يا مخنث عزّر‏)‏ لأنه آذاه بذلك وألحق به الشين، والحدود لا تثبت قياسا فوجب التعزير لينزجر عن ذلك ويعتبر غيره‏.‏ وفي المجرد عن أبي حنيفة‏:‏ يا شارب الخمر، يا خائن يعزر؛ وكذلك لو قال‏:‏ أنت تأوي اللصوص، أو تأوي الزواني لما بينا ‏(‏وكذلك يا حمار يا خنزير إن كان فقهيا أو علويا‏)‏ وكذلك يا ثور يا كلب لأنه يلحقه بذلك الأذى دون الجاهل العامي‏.‏ وقيل‏:‏ يعزر في حق الكل في عرفنا لأنهم صاروا يعدونه سبا‏.‏ وقيل لا يعزر في حق الكل لأنا تيقنا بنفيه فما لحقه به شين، وإنما لحق القاذف شين الكذب، ولأنه إنما يشبه بهذه الأشياء لسوء خلقه أو قبح خلقه وليس ذلك بمعصية‏.‏ رجل زنا بامرأة ميتة يعزر‏.‏ قال ‏(‏ومن حده الإمام أو عزره فمات فهو هدر‏)‏ لأنه مأمور من جهة الشرع فلا يتقيد بالسلامة كالفصاد، أو نقول‏:‏ استوفى حق الله تعالى بأمره فكأن الله تعالى أماته بغير واسطة فلا يجب الضمان‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وللزوج أن يعزر زوجته على ترك الزينة‏)‏ إذا أرادها ‏(‏وترك إجابته إلى فراشه، وترك غسل الجنابة، وعلى الخروج من المنزل‏)‏ لأنه يجب عليها طاعته وطاعة الله تعالى فتعزر على المخالفة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ومن سرق، أو زنى، أو شرب غير مرة فحد فهو للكل‏)‏ لأن المقصود الانزجار وأنه يحتمل حصوله بالأول فيتمكن في الثاني شبهة عدم المقصود فلا يجب؛ أما لو زنى وشرب وسرق فإنه يجب لكل واحد حد على حدة، لأنه لو ضرب لأحدهما ربما اعتقد أنه لا حد في الباقي فلا ينزجر عنها، ولا كذلك إذا اتحدت الجناية؛ ولو أقيم على القاذف حق الشرع، ولأن المقصود إظهار كذبه ليندفع به العار عن المقذوف، وذلك يحصل في حقهما بالسوط الواحد‏.‏ وإذا اجتمع حد الزنا والسرقة والشرب والقذف وفقء العين، يبدأ بالفقء لكونه خالص حق العبد، وحق العبد مقدم لحاجته واستغناء الله تعالى، ويحبس حتى يبرأ، فإذا برأ يحد للقذف لما فيه من حق العبد، ويحبس حتى يبرأ، لأنه لو جمع بين حدين ربما تلف، والتلف ليس بواجب؛ فإذا برأ فللإمام إن شاء بدأ بالقطع، وإن شاء بحد الزنا لاستوائها في الثبوت، وآخرها حد الشرب لأنه ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فكان دون ما ثبت بالكتاب؛ وإن كان محصنا بدأ بالفقء، ثم حد القذف، ثم الرجم، ويسقط الباقي لأن القتل يأتي على النفس فيؤدي إلى إسقاط بعض الحدود وقد أمرنا بذلك، وإن كان مع ذلك قتل ضرب للقذف ثم يضمن بالسرقة ثم قتل وسقط عنه الباقي، نقل ذلك عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم‏.‏

باب حد الشرب

الأصل في وجوبه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه‏)‏ ‏(‏وهو كحد الزنا كيفية، وحد القذف كمية وثبوتا‏)‏ فيجرد من ثيابه كما في حد الزنا، ويفرّق على أعضائه لما مر‏.‏ وعن محمد أنه لا يجرد تخفيفا عن حد الزنا‏.‏ قلنا‏:‏ ثبت التخفيف في العدد فلا يخفف ثانيا، وعدده ثمانون سوطا في الحر بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وأربعون في العبد لأن الرق منصف، ويثبت بإقراره مرة واحدة وبشهادة رجلين كحد القذف ‏(‏غير أنه يبطل بالرجوع والتقادم في البينة والإقرار‏)‏ وعن أبي يوسف يشترط الإقرار مرتين على ما يأتي في السرقة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏والتقادم بذهاب السكر والرائحة‏)‏ فلو أقر بعد ذهاب ريحها أو شهد عليه بعد السكر وذهاب الرائحة لم يحد‏.‏ وقال محمد‏:‏ يحد فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالإجماع، غير أن محمدا قدّره بالزمان كالزنا، لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان والرائحة مشتبهة، وعندهما مقدر بزوال الرائحة، لأن حد الشرب إنما ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، ولا إجماع بدون رأي ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه شرط وجود الرائحة، لما روي أن رجلا جاء بابن أخ له إلى عبد الله بن مسعود فاعترف عنده بشرب الخمر، فقال له ابن مسعود‏:‏ بئس وليّ اليتيم أنت لا أدبته صغيرا ولا سترت عليه كبيرا‏؟‏ تلتلوه ومزمزوه ثم استنكهوه، فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه، شرط وجود الرائحة فيكون شرطا ‏(‏فلو أخذ وريحها توجد منه فلما وصل إلى الإمام انقطعت لبعد المسافة حد‏)‏ في قولهم جميعا لأنه عذر فلا يعد تقادما كما قلنا في حد الزنا، ولا يحد السكران بإقراره على نفسه لزيادة احتمال الكذب فتمكنت الشبهة، ويسقط بخلاف حد القذف لأن فيه حق العبد، والسكران فيه كالصاحي كسائر تصرفاته عقوبة له‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويحد بشرب قطرة من الخمر، وبالسكر من النبيذ‏)‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حرمت الخمر لعينها والسكر من كل شراب‏)‏ ولإطلاق قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من شرب الخمر فاجلدوه‏)‏ وعليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم ‏(‏والسكران من لا يعرف الرجل من المرأة والأرض من السماء‏)‏ وقالا‏:‏ هو الذي يخلط كلامه ويهذي لأنه المتعارف بين الناس وهو اختيار أكثر المشايخ، وأبو حنيفة يأخذ في أسباب الحدود بأقصاها درءا للحد، وأقصاه الغلبة على العقل حتى لا يميز بين الأشياء، لأنه متى ميّز فذلك دلالة الصحو أو بعضه وأنه ضد السكر، فمتى ثبت أحدهما أو شيء منه لا يثبت الآخر ‏(‏ولا يحد حتى يعلم أنه سكر من النبيذ وشربه طوعا‏)‏ لأن السكر يكون من المباحات كالبنج ولبن الرماك وغيرهما وذلك لا يوجب الحد، وكذلك الشرب مكرها لا يوجب الحد فلذلك شرط ذلك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يحد حتى يزول عنه السكر‏)‏ ليتألم بالضرب فيحصل مصلحة الزجر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا يحد من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها‏)‏ لأن الرائحة مشتبهة واحتمال أنه شربها مكرها ثابت الحدود لا تجب بالشك، والله أعلم‏.‏